فصل: تفسير الآيات رقم (52- 62)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


سورة الذاريات

مكية وآيها ستون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏والذاريات ذَرْواً‏}‏ يعني الرياح تذرو التراب وغيره، أو النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد، أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء في الذال‏.‏

‏{‏فالحاملات وِقْراً‏}‏ فالسحب الحاملة للأمطار، أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك‏.‏ وقرئ «وِقْراً» على تسمية المحمول بالمصدر‏.‏

‏{‏فالجاريات يُسْراً‏}‏ فالسفن الجارية في البحر سهلاً، أو الرياح الجارية في مهابها، أو الكواكب التي تجري في منازلها‏.‏ و‏{‏يُسْراً‏}‏ صفة مصدر محذوف أي جرياً ذا يسر‏.‏

‏{‏فالمقسمات أَمْراً‏}‏ الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة، أو الريح يقسمن الأمطار بتصريف السحاب، فإن حملت على ذوات مختلفة بالفاء لترتيب الأقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، وإلا فالفاء لترتيب الأفعال إذ الرياح مثلاً تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحاباً، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به فتقسم المطر‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ‏}‏ جواب القسم كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث للجزاء الموعود، وما موصولة أو مصدرية و‏{‏الدين‏}‏ الجزاء والواقع الحاصل‏.‏

‏{‏والسماء ذَاتِ الحبك‏}‏ ذات الطرائق، والمراد إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار وتتوصل بها إلى المعارف، أو النجوم فإن لها طرائق أو أنها تزينها كما يزين الموشي طرائق الوشي‏.‏ جمع حبيكة كطريقة وطرق أو حباك كمثال ومثل‏.‏ وقرئ «الحبك» بالسكون و«الحبك» كالإِبل و«الحبك» كالسلك و«الحبك» كالجبل و«الحبك» كالنعم و«الحبك» كالبرق‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ‏}‏ في الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قولهم تارة أنه ‏{‏شَاعِرٌ‏}‏ وتارة أنه ‏{‏ساحر‏}‏ وتارة أنه ‏{‏مَّجْنُونٍ‏}‏، أو في القرآن أو القيامة أو أمر الديانة، ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السموات في تباعدها واختلاف غاياتها‏.‏

‏{‏يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ يصرف عنه والضمير للرسول أو القرآن أو الإيمان، من صرف إذ لا صرف أشد منه فكأنه لا صرف بالنسة إليه، أو يصرف من صرف في علم الله وقضائه ويجوز أن يكون الضمير لل ‏{‏قَوْلَ‏}‏ على معنى يصدر ‏{‏أُفِكَ‏}‏ من أفك عن القول المختلف وبسببه كقوله‏:‏

ينهون عن أكل وعن شرب *** أي يصدر تناهيهم عنهما وسببهما وقرئ ‏{‏أُفِكَ‏}‏ بالفتح أي من أفك الناس وهم قريش كانوا يصدون الناس عن الإِيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 21‏]‏

‏{‏قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏قُتِلَ الخرصون‏}‏ الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصله الدعاء بالقتل أجري مجرى اللعن‏.‏

‏{‏الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ‏}‏ في جهل يغمرهم‏.‏ ‏{‏ساهون‏}‏ غافلون عما أمروا به‏.‏

‏{‏يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين‏}‏ أي فيقولون متى يوم الجزاء أي وقوعه، وقرئ ‏{‏إيَّانَ‏}‏ بالكسر‏.‏

‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏ يحرقون جواب للسؤال أي يقع ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏، أو هو ‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏، وفتح ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ لإِضافته إلى غير متمكن ويدل عليه أنه قرئ بالرفع‏.‏

‏{‏ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ‏}‏ أي مقولاً لهم هذا القول‏.‏ ‏{‏هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون، ويجوز أن يكون هذا بدلاً من ‏{‏فِتْنَتَكُمْ‏}‏ و‏{‏الذى‏}‏ صفته‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ قابلين لما أعطاهم راضين به، ومعناه أن كل ما آتاهم حسن مرضي متلقى بالقبول‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ‏}‏ قد أحسنوا أعمالهم وهو تعليل لاستحقاقهم ذلك‏.‏

‏{‏كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ تفسير لإِحسانهم و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة أي يهجعون في طائفة من الليل، أو ‏{‏يَهْجَعُونَ‏}‏ هجوعاً قليلاً أو مصدرية أو موصولة أي في قليل من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه ولا يجوز أن تكون نافية لأن ‏{‏مَا‏}‏ بعدها لا يعمل فيما قبلها‏.‏ وفيه مبالغات لتقليل نومهم واستراحتهم ذكر القليل و‏{‏اليل‏}‏ الذي هو وقت السبات، والهجوع الذي هو الفرار من النوم وزيادة ‏{‏مَا‏}‏‏.‏

‏{‏وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ أي أنهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم، وفي بناء الفعل على الضمير إشعاراً بأنهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله وخشيتهم منه‏.‏

‏{‏وَفِى أموالهم حَقٌّ‏}‏ نصيب يستوجبونه على أنفسهم تقرباً إلى الله وإشفاقاً على الناس‏.‏ ‏{‏لَّلسَّائِلِ والمحروم‏}‏ للمستجدي والمتعفف الذي يظن غنياً فيحرم الصدقة‏.‏

‏{‏وَفِى الأرض ءايات لّلْمُوقِنِينَ‏}‏ أي فيها دلائل من أنواع المعادن والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو والسكون وارتفاع بعضها عن الماء واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص والمنافع، تدل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته‏.‏

‏{‏وَفِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي وفي أنفسكم آيات إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإِنسان له نظير يدل دلالته مع ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة، والتمكن من الأفعال الغريبة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة‏.‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ تنظرون نظر من يعتبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 29‏]‏

‏{‏وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى السماء رِزْقُكُمْ‏}‏ أسباب رزقكم أو تقديره‏.‏ وقيل المراد ب ‏{‏السماء‏}‏ السحاب وبالرزق المطر فإنه سبب الأقوات‏.‏ ‏{‏وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏ من الثواب لأن الجنة فوق السماء السابعة، أو لأن الأعمال وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء‏.‏ وقيل إنه مستأنف خبره‏:‏

‏{‏فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ وعلى هذا فالضمير ل ‏{‏مَا‏}‏ وعلى الأول يحتمل أن يكون له ولما ذكر من أمر الآيات والرزق والوعد‏.‏ ‏{‏مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في تحقق ذلك، ونصبه على الحال من المستكن في لحق أو الوصف لمصدر محذوف أي أنه لحق حقاً مثل نطقكم‏.‏ وقيل إنه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت بمعنى شيء، وإن بما في حيزها إن جعلت زائدة ومحله الرفع على أنه صفة ‏{‏لَحَقُّ‏}‏، ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر بالرفع‏.‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم‏}‏ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه أوحي إليه، والضيف في الأصل مصدر ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد‏.‏ قيل كانوا إثني عشر ملكاً‏.‏ وقيل ثلاثة جبريل وميكائيل وإسرافيل، وسماهم ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف‏.‏ ‏{‏المكرمين‏}‏ أي مكرمين عند الله أو عند إبراهيم إذ خدمهم بنفسه وزوجته‏.‏

‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ ظرف لل ‏{‏حَدِيثُ‏}‏ أو ال ‏{‏ضَيْفِ‏}‏ أو ‏{‏المكرمين‏}‏‏.‏ ‏{‏فَقَالُواْ سَلامًا‏}‏ أي نسلم عليك سلاماً‏.‏ ‏{‏قَالَ سلام‏}‏ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحيته أحسن من تحيتهم، وقرئا مرفوعين وقرأ حمزة والكسائي «قال سلم» وقرئ منصوباً والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ أي أنتم قوم منكرون، وإنما أنكرهم لأنه ظن أنهم بنو آدم ولم يعرفهم، أو لأن السلام لم يكن تحيتهم فإنه علم الإِسلام وهو كالتعرف عنهم‏.‏

‏{‏فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ‏}‏ فذهب إليهم في خفية من ضيفه فإن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى حذراً من أن يكفه الضيف أو يصير منتظراً‏.‏ ‏{‏فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏ لأنه كان عامة ماله البقر‏.‏

‏{‏فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ‏}‏ بأن وضعه بين أيديهم‏.‏ ‏{‏قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ‏}‏ أي منه، وهو مشعر بكونه حنيذا، والهمزة فيه للعرض والحث على الأكل على طريقة الأدب أن قاله أول ما وضعه، وللإِنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم‏.‏

‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ فأضمر منهم خوفاً لما رأى إعراضهم عن طعامه لظنه أنهم جاؤوه لشر‏.‏ وقيل وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب‏.‏ ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ‏}‏ إنا رسل الله‏.‏ قيل مسح جبريل العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم‏.‏ ‏{‏وَبَشَّرُوهُ بغلام‏}‏ هو اسحاق عليه السلام‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ يكمل علمه إذ بلغ‏.‏

‏{‏فَأَقْبَلَتِ امرأته‏}‏ سارة إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم‏.‏ ‏{‏فِى صَرَّةٍ‏}‏ في صيحة من الصرير، ومحله النصب على الحال أو المفعول إن أول فأقبلت بأخذت‏.‏ ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏ فلطمت بأطراف الأصابع جبهتها فعل المتعجب‏.‏ وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء‏.‏ ‏{‏وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏ أي أنا عجوز عاقر فكيف ألد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 46‏]‏

‏{‏قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ كَذَلِكِ‏}‏ مثل ذلك الذي بشرنا به‏.‏ ‏{‏قَالَ رَبُّكِ‏}‏ وإنما نخبرك به عنه‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم‏}‏ فيكون قوله حقاً وفعله محكماً‏.‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون‏}‏ لما علم أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون مجتمعين إلا لأمر عظيم سأل عنه‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ يعنون قوم لوط‏.‏

‏{‏لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ‏}‏ يريد السجيل فإنه طين متحجر‏.‏

‏{‏مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ‏}‏ مرسلة من أسمت الماشية، أو معلمة من السومة وهي العلامة‏.‏ ‏{‏لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ المجاوزين الحد في الفجور‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا‏}‏ في قرى قوم لوط وإضمارها ولم يجر ذكرها لكونها معلومة‏.‏ ‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ ممن آمنَ بلوط‏.‏

‏{‏فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين‏}‏ غير أهل بيت من المسلمين، واستدل به على اتحاد الإِيمان والإِسلام وهو ضعيف لأن ذلك لا يقتضي إلا من صدق المؤمن والمسلم على من اتبعه، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً‏}‏ علامة‏.‏ ‏{‏لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم‏}‏ فإنهم المعتبرون بها وهي تلك الأحجار، أو صخر منضود فيها أو ماء أسود منتن‏.‏

‏{‏وَفِى موسى‏}‏ عطف على ‏{‏وَفِى الأرض‏}‏، أو ‏{‏ترَكْنَا فِيهَا‏}‏ على معنى وجعلنا في موسى كقوله‏:‏

علفتها تبناً وماء بارداً *** ‏{‏

إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ هو معجزاته كالعصا واليد‏.‏

‏{‏فتولى بِرُكْنِهِ‏}‏ فأعرض عن الإِيمان به كقوله ‏{‏وَنَأَى بِجَانِبِهِ‏}‏ أو فتولى بما كان يتقوى به من جنوده، وهو اسم لما يركن إليه الشيء ويتقوى به‏.‏ وقرئ بضم الكاف‏.‏ ‏{‏وَقَالَ ساحر‏}‏ أي هو ساحر‏.‏ ‏{‏أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ كأنه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوباً إلى الجن، وتردد في أنه حصل ذلك باختياره وسعيه أو بغيرهما‏.‏

‏{‏فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم‏}‏ فأغرقناهم في البحر‏.‏ ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ آت بما يلام عليه من الكفر والعناد، والجملة حال من الضمير في ‏{‏فأخذناه‏}‏‏.‏

‏{‏وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم‏}‏ سماها عقيماً لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم، أو لأنها لم تتضمن منفعة، وهي الدبور أو الجنوب أو النكباء‏.‏

‏{‏مَا تَذَرُ مِن شَئ أَتَتْ‏}‏ مرت‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم‏}‏ كالرماد من الرم وهو البلى والتفتت‏.‏

‏{‏وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ‏}‏ تفسيره قوله‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ ‏{‏فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ فاستكبروا عن امتثاله‏.‏ ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة‏}‏ أي العذاب بعد الثلاث‏.‏ وقرأ الكسائي «الصعقة» وهي المرة من الصعق‏.‏ ‏{‏وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ إليها فإنها جاءتهم معاينة بالنهار‏.‏

‏{‏فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ وقيل من قولهم ما يقوم به إذا عجز عن دفعه‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ‏}‏ ممتنعين منه‏.‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ‏}‏ أي وأهلكنا قوم نوح لأن ما قبله يدل عليه‏.‏ أو أذكر ويجوز أن يكون عطفاً على محل ‏{‏فِى عَادٍ‏}‏، ويؤيده قراءة أبي عمرو وحمزة والكسائي بالجر‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل هؤلاء المذكورين‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ خارجين عن الاستقامة بالكفر والعصيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 60‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء بنيناها بِأَيْدٍ‏}‏ بقوة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة والموسع القادر على الإنفاق‏.‏ أو ‏{‏لَمُوسِعُونَ‏}‏ السماء أو ما بينها وبين الأرض أو الرزق‏.‏

‏{‏والأرض فرشناها‏}‏ مهدناها لتستقروا عليها‏.‏ ‏{‏فَنِعْمَ الماهدون‏}‏ أي نحن‏.‏

‏{‏وَمِن كُلّ شَئ‏}‏ من الأجناس‏.‏ ‏{‏خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ نوعين ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتعلمون أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات لا يقبل التعدد والانقسام‏.‏

‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ من عقابه بالإِيمان والتوحيد وملازمة الطاعة‏.‏ ‏{‏إِنّى لَكُمْ مّنْهُ‏}‏ أي من عذابه المعد لمن أشرك أو عصى‏.‏ ‏{‏نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ بين كونه منذراً من الله بالمعجزات، أو ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ما يجب أن يحذر عنه‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ إفراد لأعظم ما يجب أن يفر منه‏.‏ ‏{‏إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ تكرير للتأكيد، أو الأول مرتب على ترك الإِيمان والطاعة والثاني على الإِشراك‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي الأمر مثل ذلك، والإِشارة إلى تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ‏{‏ساحراً أو مجنوناً‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ كالتفسير له، ولا يجوز نصبه ب ‏{‏أتى‏}‏ أو ما يفسره لأن ما بعد ‏{‏مَا‏}‏ النافية لا يعمل فيما قبلها‏.‏

‏{‏أَتَوَاصَوْاْ بِهِ‏}‏ أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضاً بهذا القول حتى قالوه جميعاً‏.‏ ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون‏}‏ إضراب عن أن التواصي جامعهم لتباعد أيامهم إلى أن الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ فاعرض عن مجادلتهم بعدما كررت عليهم الدعوة فأبوا إلا الإِصرار والعناد‏.‏ ‏{‏فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏ على الإِعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ‏.‏

‏{‏وَذَكَرَ‏}‏ ولا تدع التذكير والموعظة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين‏}‏ من قدر الله إيمانه أو من آمن فإنه يزداد بها بصيرة‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها، جعل خلقهم مُغيابها مبالغة ذلك، ولو حمل على ظاهره مع أن الدليل يمنعه لنا في ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس‏}‏ وقيل معناه إلا لأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عباداً لي‏.‏

‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ‏}‏ أي ما أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي فاشتغلوا بما أنتم كالمخلوقين له والمأمورين به، والمراد أن يبين أن شأنه مع عباده ليس شأن السادة مع عبيدهم، فإنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم، ويحتمل أن يقدر بقل فيكون بمعنى قوله‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً‏}‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق‏}‏ الذي يرزق كل ما يفتقر إلى الرزق، وفيه إيماء باستغنائه عنه، وقرئ «إني أنا الرزاق» ‏{‏ذُو القوة المتين‏}‏ شديد القوة، وقرئ ‏{‏المتين‏}‏ بالجر صفة ل ‏{‏القوة‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً‏}‏ أي للذين ظلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكذيب نصيباً من العذاب‏.‏ ‏{‏مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم‏}‏ مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة، وهو مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء، فإن الذنوب هو الدلو العظيم المملوء‏.‏ ‏{‏فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ‏}‏ جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ‏}‏ من يوم القيامة أو يوم بدر‏.‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة والذاريات أعطاه الله عشر حسنات بعدد كل ريح هبت وجرت في الدنيا»‏.‏

سورة الطور

مكية وآيها تسع أو ثمان وأربعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 13‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏والطور‏}‏ يريد طور سنين، وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام الله تعالى، ‏{‏والطور‏}‏ الجبل بالسريانية أو ما طار من أوج الإِيجاد إلى حضيض المواد، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة‏.‏

‏{‏وكتاب مُّسْطُورٍ‏}‏ مكتوب، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة‏.‏ والمراد به القرآن أو ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، أو ألواح موسى عليه السلام، أو في قلوب أوليائه من المعارف والحكم أو ما تكتبه الحفظة‏.‏

‏{‏فِى رَقّ مَّنْشُورٍ‏}‏ الرق الجلد الذي يكتب فيه استعير لما كتب فيه الكتاب، وتنكيرهما للتعظيم والإِشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس‏.‏

‏{‏والبيت المعمور‏}‏ يعني الكعبة وعمارتها بالحجاج والمجاورين، أو الضراح وهو في السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة، أو قلب المؤمن وعمارته بالمعرفة والإِخلاض‏.‏

‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ يعني السماء‏.‏

‏{‏والبحر المسجور‏}‏ أي المملوء وهو المحيط، أو الموقد من قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ روي أنه تعالى يجعل يوم القيامة البحار ناراً يسجر بها نار جهنم، أو المختلط من السجير وهو الخليط‏.‏

‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ لنازل‏.‏

‏{‏مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏ يدفعه، ووجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنها أمور تدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته وصدق أخباره وضبطه أعمال العباد للمجازاة‏.‏

‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً‏}‏ تضطرب، والمور تردد في المجيء والذهاب، وقيل تحرك في تموج و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ ظرف‏.‏

‏{‏وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً‏}‏ أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ أي إذا وقع ذلك فويل لهم‏.‏

‏{‏الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ أي في الخوض في الباطل‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ يدفعون إليها دفعاً بعنف، وذلك بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار‏.‏ وقرئ «يَدَّعُونَ» من الدعاء فيكون دعا حالاً بمعنى مدعوين، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ بدل من ‏{‏يَوْمَ تَمُورُ‏}‏ أو ظرف لقول مقدر محكية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 21‏]‏

‏{‏هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ أي يقال لهم ذلك‏.‏

‏{‏أَفَسِحْرٌ هذا‏}‏ أي كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفهذا المصداق أيضاً سحر، وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإِنكار والتوبيخ‏.‏ ‏{‏أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ هذا أيضاً كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، ما يدل عليه وهو تقريع وتهكم أو‏:‏ أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حين قلتم ‏{‏إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا‏}‏ ‏{‏اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ‏}‏ أي ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا محيص لكم عنها‏.‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ‏}‏ أي الأمران الصبر وعدمه‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ تعليل للاستواء فإنه لما كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَعِيمٍ‏}‏ في أية جنات وأي نعيم، أو في ‏{‏جنات وَنَعِيمٍ‏}‏ مخصوصة بهم‏.‏

‏{‏فاكهين‏}‏ ناعمين متلذذين‏.‏ ‏{‏بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ وقرئ «فكهين» و«فاكهون» على أنه الخبر والظرف لغو‏.‏ ‏{‏ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم‏}‏ عطف على ‏{‏ءاتاهم‏}‏ إن جعل ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية، أو ‏{‏فِي جنات‏}‏ أو حال بإضمار قد من المستكن في الظرف أو الحال، أو من فاعل آتي أو مفعوله أو منهما‏.‏

‏{‏كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً‏}‏ أي أكلا وشرابا ‏{‏هَنِيئَاً‏}‏، أو طعاماً وشراباً ‏{‏هَنِيئَاً‏}‏ وهو الذي لا تنغيص فيه‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ بسببه أو بدله، وقيل الباء زائدة و«ما» فاعل ‏{‏هَنِيئَاً‏}‏، والمعنى هنأكم ما كنتم تعملون أي جزاؤه‏.‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ‏}‏ مصطفة ‏{‏وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ الباء لما في التزويج من معنى الوصل والإِلصاق، أو للسببية إذ المعنى صيرناهم أزواجاً بسببهن، أو لما في التزويج من معنى الإلصاق والقرن ولذلك عطف‏.‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين‏.‏ وقيل إنه مبتدأ ‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان‏}‏ اعتراض للتعليل، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» بالجمع وضم التاء للمبالغة في كثرتهم والتصريح، فإن الذرية تقع على الواحد والكثير، وقرأ أبو عمرو و«أتبعناهم ذرياتهم» أي جعلناهم تابعين لهم في الإِيمان‏.‏ وقيل ‏{‏بإيمان‏}‏ حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم، أو الإِشعار بأنه يكفي للإِلحاق المتابعة في أصل الإِيمان‏.‏ ‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ‏}‏ في دخول الجنة أو الدرجة‏.‏ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال ‏"‏ إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقربهم عينه ثم تلا هذه الآية ‏"‏ وقرأ نافع وابن عامر والبصريان ‏{‏ذرياتهم‏}‏‏.‏ ‏{‏وَمَا ألتناهم‏}‏ وما نقصناهم‏.‏ ‏{‏مّنْ عَمَلِهِم مّن شَئ‏}‏ بهذا الإِلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم، ويحتمل أن يكون بالتفصيل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه‏.‏ وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت، وعنه «لتناهم» من لات يليت و«آلتناهم» من آلت يولت، و«والتناهم» من ولت يلت ومعنى الكل واحد‏.‏ ‏{‏كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ‏}‏ بعمله مرهون عند الله تعالى فإن عمل صالحاً فكه وإلا أهلكه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 32‏]‏

‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ أي وزدناهم وقتاً بعد وقت ما يشتهون من أنواع التنعم‏.‏

‏{‏يتنازعون فِيهَا‏}‏ يتعاطون هم وجلساؤهم بتجاذب‏.‏ ‏{‏كَأْساً‏}‏ خمراً سماها باسم محلها ولذلك أنث الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ‏}‏ أي لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها، ولا يفعلوا ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا، وذلك مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ وقرأهما ابن كثير والبصريان بالفتح‏.‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي بالكأس‏.‏ ‏{‏غِلْمَانٌ لَّهُمْ‏}‏ أي مماليك مخصوصون بهم‏.‏ وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ‏}‏ مصون في الصدف من بياضهم وصفائهم‏.‏ وعنه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ‏"‏ ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ يسأل بعضهم بعضاً عن أحواله وأعماله‏.‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلَ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين من عصيان الله معتنين بطاعته، أو وجلين من العاقبة‏.‏

‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ بالرحمة والتوفيق‏.‏ ‏{‏ووقانا عَذَابَ السموم‏}‏ عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم، وقرئ «ووقانا» بالتشديد‏.‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل ذلك في الدنيا‏.‏ ‏{‏نَدْعُوهُ‏}‏ نعبده أو نسأله الوقاية‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ هُوَ البر‏}‏ المحسن، وقرأ نافع والكسائي «أَنَّهُ» بالفتح‏.‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ الكثير الرحمة‏.‏

‏{‏فَذَكّرْ‏}‏ فاثبت على التذكير ولا تكترث بقولهم‏.‏ ‏{‏فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبَّكَ‏}‏ بحمد الله وإنعامه‏.‏ ‏{‏بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ‏}‏، كما يقولون‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ ما يقلق النفوس من حوادث الدهر، وقيل ‏{‏المنون‏}‏ الموت فعول من منه إذا قطعه‏.‏

‏{‏قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين‏}‏ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي‏.‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم‏}‏ عقولهم‏.‏ ‏{‏بهذا‏}‏ بهذا التناقض في القول فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر، والمجنون مغطى عقله والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق مخيل، ولا يتأتى ذلك من المجنون وأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه‏.‏ ‏{‏أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ مجاوزون الحد في العناد وقرئ «بل هم»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 49‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ‏}‏ اختلقه من تلقاء نفسه‏.‏ ‏{‏بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم‏.‏

‏{‏فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ‏}‏ مثل القرآن‏.‏ ‏{‏إِن كَانُواْ صادقين‏}‏ في زعمهم إذ فيهم كثير ممن عدوا فصحاء فهو رد للأقوال المذكورة بالتحدي، ويجوز أن يكون رد للتقول فإن سائر الأقسام ظاهر الفساد‏.‏

‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَئ‏}‏ أم أحدثوا وقدروا من غير محدث ومقدر فلذلك لا يعبدونه، أو من أجل لا شيء من عبادة ومجازاة‏.‏ ‏{‏أَمْ هُمُ الخالقون‏}‏ يؤيد الأول فإن معناه أم خلقوا أنفسهم ولذاك عقبه بقوله‏:‏

‏{‏أَمْ خَلَقُواْ السموات والأرض‏}‏ و‏{‏أَمْ‏}‏ في هذه الآيات منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإِنكار‏.‏ ‏{‏بَل لاَّ يُوقِنُونَ‏}‏ إذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا الله إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته‏.‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ‏}‏ خزائن رزقه حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا، أو خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختارته حكمته‏.‏ ‏{‏أَمْ هُمُ المُصَيْطَرُون‏}‏ الغالبون على الأشياء يدبرونها كيف شاؤوا‏.‏ وقرأ قنبل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين وحمزة بخلاف عن خلاد بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد خاصة‏.‏

‏{‏ا أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ‏}‏ مرتقى إلى السماء‏.‏ ‏{‏يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‏}‏ صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن‏.‏ ‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ بحجة واضحة تصدق استماعه‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون‏}‏ فيه تسفيه لهم وإشعار بأن من هذا رأيه لا يعد من العقلاء فضلاً أن يترقى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلع على الغيوب‏.‏

‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً‏}‏ على تبليغ الرسالة‏.‏ ‏{‏فَهُم مّن مَّغْرَمٍ‏}‏ من التزام غرم‏.‏ ‏{‏مُّثْقَلُونَ‏}‏ محملون الثقل فلذلك زهدوا في اتباعك‏.‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ اللوح المحفوظ المثبت فيه المغيبات‏.‏ ‏{‏فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ منه‏.‏

‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً‏}‏ وهو كيدهم في دار الندوة برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فالذين كَفَرُواْ‏}‏ يحتمل العموم والخصوص فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم، والدلالة على أنه الموجب للحكم المذكور‏.‏

‏{‏هُمُ المكيدون‏}‏ هم الذين يحيق بهم الكيد أو يعود عليهم وبال كيدهم، وهو قتلهم يوم بدر أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله‏}‏ يعينهم ويحرسهم من عذابه‏.‏ ‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ عن إشراكهم أو شركة ما يشركونه به‏.‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً‏}‏ قطعة‏.‏ ‏{‏مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ‏}‏ من فرط طغيانهم وعنادهم‏.‏ ‏{‏سحاب مَّرْكُومٌ‏}‏ هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، وهو جواب قولهم ‏{‏فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماء‏}‏

‏{‏فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ‏}‏ وهو عند النفخة الأولى، وقرئ‏.‏ «يلقوا» وقرأ ابن عامر وعاصم ‏{‏يُصْعَقُونَ‏}‏ على المبني للمفعول من صعقه أو أصعقه‏.‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏ أي شيئاً من الإِغناء في رد العذاب‏.‏ ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ يمنعون من عذاب الله‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ يحتمل العموم والخصوص‏.‏ ‏{‏عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي دون عذاب الآخرة وهو عذاب القبر أو المؤاخذة في الدنيا كقتلهم ببدر والقحط سبع سنين‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذَلِكَ‏.‏

‏{‏واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ بإمهالهم وإبقائك في عنائهم‏.‏ ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ في حفظنا بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين لجمع الضمير والمبالغة بكثرة أسباب الحفظ‏.‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ من أي مكان قمت أو من منامك أو إلى الصلاة‏.‏

‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ‏}‏ فإن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء، ولذلك أفرده بالذكر وقدمه على الفعل ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل، وقرئ بالفتح أي في أعقابها إذا غربت أو خفيت‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة والطور كان حقاً على الله أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته ‏"‏‏.‏

سورة النجم

مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏ وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏والنجم إِذَا هوى‏}‏ أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال‏:‏ هوى هوياً بالفتح إذا سقط وغرب، وهويا بالضم إذا علا وصعد، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض، أو إذا نما وارتفع على قوله‏:‏

‏{‏مَا ضَلَّ صاحبكم‏}‏ ما عدل محمد صلى الله عليه وسلم عن الطريق المستقيم، والخطاب لقريش‏.‏ ‏{‏وَمَا غوى‏}‏ وما اعتقد باطلاً والخطاب لقريش، والمراد نفي ما ينسبون إليه‏.‏

‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى‏}‏ وما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ ما القرآن أو الذي ينطق به‏.‏ ‏{‏إِلاَّ وَحْىٌ يوحى‏}‏ أي إلا وحي يوحيه الله إليه، واحتج به من لم ير الاجتهاد له‏.‏ وأجيب عنه بأنه إذا أوحي إليه بأن يجتهد كان اجتهاده وما يستند إليه وحياً، وفيه نظر لأن ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي‏.‏

‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى‏}‏ ملك شديد قواه وهو جبريل عليه السلام فإنه الواسطة في إبداء الخوارق، روي أنه قلع قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء ثم قلبها وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين‏.‏

‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏ حصافة في عقله ورأيه‏.‏ ‏{‏فاستوى‏}‏ فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها‏.‏ قيل ما رآه أحد من الأنبياء في صورته غير محمد عليه الصلاة والسلام مرتين، مرة في السماء ومرة في الأرض، وقيل استوى بقوته على ما جعل له من الأمر‏.‏

‏{‏وَهُوَ بالأفق الاعلى‏}‏ في أفق السماء والضمير لجبريل عليه السلام‏.‏

‏{‏ثُمَّ دَنَا‏}‏ من النبي عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏فتدلى‏}‏ فتعلق به وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل ثم تدلى من الأفق الأعلى فدنا فيكون من الرسول إشعاراً بأنه عرج به غير منفصل عن محله تقريراً لشدة قوته، فإن التدلي استرسال مع تعلق كتدلي الثمرة، ويقال دلى رجليه من السرير وأدلى دلوه، والدوالي الثمر المعلق‏.‏

‏{‏فَكَانَ‏}‏ جبريل عليه السلام كقولك‏:‏ هو مني معقد إزار، أو المسافة بينهما‏.‏ ‏{‏قَابَ قَوْسَيْنِ‏}‏ مقدارهما‏.‏ ‏{‏أَوْ أدنى‏}‏ على تقديركم كقوله أو يزيدون، والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس‏.‏

‏{‏فأوحى‏}‏ جبريل عليه السلام‏.‏ ‏{‏إلى عَبْدِهِ‏}‏ عبد الله واضماره قبل الذكر لكونه معلوماً كقوله‏:‏ ‏{‏على ظَهْرِهَا‏}‏ ‏{‏مَا أوحى‏}‏ جبريل عليه السلام وفيه تفخيم للموحى به أو الله إليه، وقيل الضمائر كلها لله تعالى وهو المعني بشديد القوى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين‏}‏ ودنوه منه برفع مكانته وتدليه جذبه بشراشره إلى جناب القدس‏.‏

‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏ ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه السلام أو الله تعالى، أي ما كذب بصره بما حكاه له فإن الأمور القدسية تدرك أولاً بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر، أو ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك كان كاذباً لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره، أو ما رآه بقلبه والمعنى أنه لم يكن تخيلاً كاذباً‏.‏ ويدل عليه ‏"‏ أنه عليه الصلاة والسلام سئل هل رأيت ربك‏؟‏ فقال رأيته بفؤادي ‏"‏‏.‏ وقرأ هشام ما كذب أي صدقه ولم يشك فيه‏.‏

‏{‏أفتمارونه على مَا يرى‏}‏ أفتجادلونه عليه، من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة كأن كلا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويعقوب «أفتمرونه» أي أفتغلبونه في المراء من ماريته فمريته، أو أفتجحدونه من مراه حقه إذا جحده وعلى لتضمين الفعل معنى الغلبة فإن المماري والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى‏}‏ مرة أخرى فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصبت نصبها إشعاراً بأن الرؤية في هذه المرة كانت أيضاً بنزول ودنو والكلام في المرئي والدنو ما سبق‏.‏ وقيل تقديره ولقد رآه نازلاً نزلة أخرى، ونصبها على المصدر والمراد به نفي الريبة عن المرة الأخيرة‏.‏

‏{‏عِندَ سِدْرَةِ المنتهى‏}‏ التي ينتهي إليها أعمال الخلائق وعلمهم، أو ما ينزل من فوقها ويصعد من تحتها، ولعلها شبهت بالسدرة وهي شجرة النبق لأنهم يجتمعون في ظلها‏.‏ وروي مرفوعاً أنها في السماء السابعة‏.‏

‏{‏عِندَهَا جَنَّةُ المأوى‏}‏ الجنة التي يأوي إليها المتقون أو أرواح الشهداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 25‏]‏

‏{‏إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ‏(‏20‏)‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى‏}‏ تعظيم وتكثير لما يغشاها بحيث لا يكتنهها نعت ولا يحصيها عد، وقيل يغشاها الجم الغفير من الملائكة يعبدون الله عندها‏.‏

‏{‏مَا زَاغَ البصر‏}‏ ما مال بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رآه‏.‏ ‏{‏وَمَا طغى‏}‏ وما تجاوزه بل أثبته إثباتاً صحيحاً مستيقناً، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها‏.‏

‏{‏لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى‏}‏ أي والله لقد رأى من آياته وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج وقد قيل إنها المعنية بما ‏{‏رأى‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏الكبرى‏}‏ صفة لل ‏{‏ءايات‏}‏ على أن المفعول محذوف أي شيئاً من آيات ربه أو ‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة‏.‏

‏{‏أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى‏}‏ هي أصنام كانت لهم، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة وهي فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليها أي يطوفون‏.‏ وقرأ هبة الله عن البزي ورويس عن يعقوب«اللات» بالتشديد على أنه سمي به لأنه صورة رجل كان يلت السويق بالسمن ويطعم الحاج‏.‏ ‏{‏والعزى‏}‏ بالتشديد سمرة لغطفان كانوا يعبدونها فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها، وأصلها تأنيث الأعز ‏{‏ومناة‏}‏ صخرة كانت لهذيل وخزاعة أو لثقيف وهي فعلة من مناه إذا قطعه فإنهم كانوا يذبحون عندها القرابين ومنه منى‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏مناة‏}‏ وهي مفعلة من النوء فإنهم كانوا يستمطرون الأنواء عندها تبركاً بها، وقوله ‏{‏الثالثة الأخرى‏}‏ صفتان للتأكيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ أو ‏{‏الأخرى‏}‏ من التأخر في الرتبة‏.‏

‏{‏أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى‏}‏ إنكار لقولهم الملائكة بنات الله، وهذه الأصنام استوطنها جنيات هن بناته، أو هياكل الملائكة وهو المفعول الثاني لقوله ‏{‏أَفَرَءيْتُمُ‏}‏‏.‏

‏{‏تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى‏}‏ جائرة حيث جعلتم له ما تستنكفون منه وهي فعلى من الضيز وهو الجور، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء كما فعل في بيض فإن فعلى بالكسر لم تأت وصفاً‏.‏ وقرأ ابن كثير بالهمز من ضأزه إذا ظلمه على أنه مصدر نعت به‏.‏

‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء‏}‏ الضمير للأصنام أي ما هي باعتبار الألوهية إلا أسماء تطلقونها عليها لأنهم يقولون أنها آلهة وليس فيها شيء من معنى الألوهية، أو للصفة التي تصفونها بها من كونها آلهة وبنات وشفعاء، أو للأسماء المذكورة فإنهم كانوا يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، والعزى لعزتها ومناة لاعتقادهم أنها تستحق أن يتقرب إليها بالقرابين‏.‏ ‏{‏سَمَّيْتُمُوهَا‏}‏ سميتم بها‏.‏

‏{‏أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمُ‏}‏ بهواكم‏.‏ ‏{‏مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان‏}‏ برهان تتعلقون به‏.‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ‏}‏ وقرئ بالتاء‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الظن‏}‏ إلا توهم أن ما هم عليه حق تقليداً وتوهماً باطلاً‏.‏ ‏{‏وَمَا تَهْوَى الأنفس‏}‏ وما تشتهيه أنفسهم‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى‏}‏ الرسول أو الكتاب فتركوه‏.‏

‏{‏أَمْ للإنسان مَا تمنى‏}‏ ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإِنكار، والمعنى ليس له كل ما يتمناه والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة وقولهم‏:‏ ‏{‏لَئِنْ رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ونحوهما‏.‏

‏{‏فَلِلَّهِ الأخرة والأولى‏}‏ يعطي منهما ما يشاء لمن يريد وليس لأحد أن يتحكم عليه في شيء منهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 35‏]‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ‏(‏33‏)‏ وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى ‏(‏34‏)‏ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً‏}‏ وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم شيئاً ولا تنفع‏.‏

‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله‏}‏ في الشفاعة‏.‏ ‏{‏لِمَن يَشَاء‏}‏ من الملائكة أن يشفع أو من الناس أن يشفع له‏.‏ ‏{‏ويرضى‏}‏ ويراه أهلاً لذلك فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة‏}‏ أي كل واحد منهم‏.‏ ‏{‏تَسْمِيَةَ الأنثى‏}‏ بأن يسموه بنتاً‏.‏

‏{‏وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي بما يقولون، وقرئ بها أي بالملائكة أو بالتسمية‏.‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏ فإن الحق الذي هو حقيقة الشيء لا يدرك إلا بالعلم، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية، وإنما العبرة به في العمليات وما يكون وصلة إليها‏.‏

‏{‏فَأَعْرَضَ عَمَّنْ تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا‏}‏ فأعرض عن دعوته والاهتمام بشأنه فإن من غفل عن الله وأعرض عن ذكره‏.‏ وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته ومبلغ علمه لا تزيده الدعوة إلا عناداً وإصراراً على الباطل‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي أمر الدنيا أو كونها شهية‏.‏ ‏{‏مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم‏}‏ لا يتجاوزه علمهم والجملة اعتراض مقرر لقصور هممهم بالدنيا وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى‏}‏ تعليل للأمر بالإِعراض أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب فلا تتعب نفسك في دعوتهم إذ ما عليك إلا البلاغ وقد بلغت‏.‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً‏.‏ ‏{‏لِيَجْزِىَ الذين أساؤوا بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ بعقاب ما عملوا من السوء أو بمثله أو بسبب ما عملوا من السوء، وهو بمثله دل عليه ما قبله أي خلق العالم وسواه للجزاء، أو ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لذلك ‏{‏وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى‏}‏ بالمثوبة الحسنى وهي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى‏.‏

‏{‏الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم‏}‏ ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه‏.‏ وقيل ما أوجب الحد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإِثم على إرادة الجنس أو الشرك‏.‏ ‏{‏والفواحش‏}‏ ما فحش من الكبائر خصوصاً‏.‏ ‏{‏إِلاَّ اللمم‏}‏ إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر، والاستثناء منقطع ومحل ‏{‏الذين‏}‏ النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة‏}‏ حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى‏.‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ‏}‏ أعلم بأحوالكم منكم‏.‏

‏{‏إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام‏.‏ ‏{‏فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ فلا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل‏.‏ ‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى‏}‏ فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام‏.‏

‏{‏أَفَرَأَيْتَ الذى تولى‏}‏ عن اتباع الحق والثبات عليه‏.‏

‏{‏وأعطى قَلِيلاً وأكدى‏}‏ وقطع العطاء من قولهم أكدى الحافر إذا بلغ الكدية وهي الصخرة الصلبة فترك الحفر‏.‏ والأكثر على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بعض المشركين وقال‏:‏ تركت دين الأشياخ وضللتهم قال أخشى عذاب الله تعالى فضمن أن يتحمل عنه العقاب إن أعطاه بعض ماله فارتد وأعطى بعض المشروط ثم بخل بالباقي‏.‏

‏{‏أَعْنْدَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى‏}‏ يعلم أن صاحبه يتحمل عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 51‏]‏

‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى ‏(‏36‏)‏ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ‏(‏37‏)‏ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ‏(‏41‏)‏ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏45‏)‏ مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏ وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ‏(‏47‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ‏(‏50‏)‏ وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى وإبراهيم الذى وفى‏}‏ وفى وأتم ما التزمه وأمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد الله، وتخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره كالصبر على نار نمروذ حتى أتاه جبريل عليه السلام حين ألقي في النار فقال ألك حاجة، فقال أما إليك فلا، وذبح الولد وأنه كان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم، وتقديم موسى عليه الصلاة والسلام لأن صحفه وهي التوراة كانت أشهر وأكبر عندهم‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى‏}‏ أن هي المخففة من الثقيلة وهي بما بعدها في محل الجر بدلاً مما ‏{‏فِى صُحُفِ موسى‏}‏، أو الرفع على هو أن ‏{‏لا تَزِرُ‏}‏ كأنه قيل ما في صحفهما‏؟‏ فأجاب به، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يخالف ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً‏}‏ وقوله عليه الصلاة والسلام، «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك للدلالة والتسبب الذي هو وزره‏.‏

‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ إلا سعيه أي كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله، وما جاء في الأخبار من أن الصدقة والحج ينفعان الميت فلكون الناوي له كالنائب عنه‏.‏

‏{‏وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى‏}‏ أي يجزى العبد سعيه بالجزاء الأوفر فنصب بنزع الخافض، ويجوز أن يكون مصدراً وأن تكون الهاء للجزاء المدلول عليه بيجزى و‏{‏الجزاء‏}‏ بدله‏.‏

‏{‏وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى‏}‏ انتهاء الخلائق ورجوعهم، وقرئ بالكسر على أنه منقطع عما في الصحف وكذلك ما بعده‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ لا يقدر على الإِماتة والإِحياء غيره فإن القاتل ينقض البنية والموت يحصل عنده بفعل الله تعالى على سبيل العادة‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى‏}‏ تدفق في الرحم أو تخلق، أو يقدر منها الولد من منى إذا قدر‏.‏

‏{‏وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى‏}‏ الإِحياء بعد الموت وفاء بوعده، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدة وهو أيضاً مصدر نشأ‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى‏}‏ وأعطى القنية وهو ما يتأثل من الأموال، وإفرادها لأنها أشرف الأموال أو أرضى وتحقيقه جعل الرضا له قنية‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى‏}‏ يعني العبور وهي أشد ضياء من الغميصاء، عبدها أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وخالف قريشاً في عبادة الأوثان، ولذلك كانوا يسمون الرسول صلى الله عليه وسلم ابن أبي كبشة، ولعل تخصيصها للإِشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وإن وافق أبا كبشة في مخالفاتهم خالفه أيضاً في عبادتها‏.‏

‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى‏}‏ القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل ‏{‏عَاداً الأولى‏}‏ قوم هود وعاد الأخرى إرم‏.‏ وقرئ «عَاداً لولي» بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى لام التعريف وقرأ نافع وأبو عمرو «عَاداً لولي» بضم اللام بحركة الهمزة وبادغام التنوين، وقالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو‏.‏

‏{‏وَثَمُودَاْ‏}‏ عطف على ‏{‏عَاداً‏}‏ لأن ما بعده لا يعمل فيه، وقرأ عاصم وحمزة بغير تنوين ويقفان بغير الألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف‏.‏ ‏{‏فَمَا أبقى‏}‏ الفريقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 62‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏ هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ‏(‏56‏)‏ أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ‏(‏57‏)‏ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ‏}‏ أيضاً معطوف عليه‏.‏ ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل عاد وثمود‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى‏}‏ من الفريقين لأنهم كانوا يؤذونه وينفرون عنه ويضربونه حتى لا يكون به حراك‏.‏

‏{‏والمؤتفكة‏}‏ والقرى التي ائتفكت بأهلها أي انقلبت وهي قرى قوم لوط‏.‏ ‏{‏أهوى‏}‏ بعد أن رفعها فقلبها‏.‏

‏{‏فغشاها مَا غشى‏}‏ فيه تهويل وتعميم لما أصابهم‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ آلاَءِ رَبّكَ تتمارى‏}‏ تتشكك والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد والمعدودات وإن كانت نعماً ونقماً سماها ‏{‏ءالآء‏}‏ من قبل ما في نقمه من العبر والمواعظ للمعتبرين، والانتقام للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين‏.‏

‏{‏هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى‏}‏ أي هذا القرآن إنذار من جنس الإِنذارات المتقدمة، أو هذا الرسول نذير من جنس المنذرين الأولين‏.‏

‏{‏أَزِفَتِ الأزفة‏}‏ دنت الساعة الموصوفة بالدنو في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏‏.‏

‏{‏لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ‏}‏ ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله لكنه لا يكشفها، أو الآن بتأخيرها إلا الله، أو ليس لها كاشفة لوقتها إلا الله إذ لا يطلع عليه سواه، أو ليس لها من غير الله كشف على أنها مصدر كالعافية‏.‏

‏{‏أَفَمِنْ هذا الحديث‏}‏ يعني القرآن ‏{‏تَعْجَبُونَ‏}‏ إنكاراً‏.‏

‏{‏وَتَضْحَكُونَ‏}‏ استهزاء‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَبْكُونَ‏}‏ تحزناً على ما فرطتم‏.‏

‏{‏وَأَنتُمْ سامدون‏}‏ لاهون أو مستكبرون من سمد البعير في مسيره إذا رفع رأسه، أو مغنون لتشغلوا الناس عن استماعه من الثمود وهو الغناء‏.‏

‏{‏فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا‏}‏ أي واعبدوه دون الآلهة‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة النجم أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد وجحد به بمكة»‏.‏

سورة القمر

مكية وآيها خمس وخمسون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 10‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ‏(‏8‏)‏ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ‏(‏9‏)‏ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ روي أن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر‏.‏ وقيل معناه سينشق يوم القيامة ويؤيد الأول أنه قرئ «وقد انشق القمر» أي اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها انشقاق القمر، وقوله‏:‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ‏}‏ عن تأملها والإِيمان بها‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ مطرد وهو يدل على أنهم رأوا قبله آيات أخر مترادفة ومعجزات متتابعة حتى قالوا ذلك، أو محكم من المرة يقال أمررته فاستمر إذا أحكمته فاستحكم، أو مستبشع من استمر الشيء إذا اشتدت مرارته أو مار ذاهب لا يبقى‏.‏

‏{‏وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ وهو ما زين لهم الشيطان من رد الحق بعد ظهوره، وذكرهما بلفظ الماضي للإِشعار بأنهما من عادتهم القديمة‏.‏ ‏{‏وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ منته إلى غاية من خذلان أو نصر في الدنيا وشقاؤه، أو سعادة في الآخرة فإن الشيء إذا انتهى إلى غايته ثبت واستقر، وقرئ بالفتح أي ذو مستقر بمعنى استقرار وبالكسر والجر على أنه صفة أمر، وكل معطوف على الساعة‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ‏}‏ في القرآن ‏{‏مّنَ الأنباء‏}‏ أنباء القرون الخالية أو أنباء الآخرة‏.‏ ‏{‏مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ‏}‏ ازدجار من تعذيب أو وعيد، وتاء الافتعال تقلب دالاً مع الذال والدال والزاي للتناسب، وقرئ «مزجر» بقلبها زايا وإدغامها‏.‏

‏{‏حِكْمَةٌ بالغة‏}‏ غايتها لا خلل فيها وهي بدل من ما أو خبر لمحذوف، وقرئ بالنصب حالاً من ما فإنها موصولة أو مخصوصة بالصفة نصب الحال عنها‏.‏ ‏{‏فَمَا تُغْنِى النذر‏}‏ نفي أو استفهام إنكار، أي فأي غناء تغني النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، أو المنذر منه أو مصدر بمعنى الإِنذار‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ لعلمك بأن الإِنذار لا يغني فيهم‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَدْعُ الداع‏}‏ إسرافيل، ويجوز أن يكون الدعاء فيه كالأمر في قوله‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ وإسقاط الياء اكتفاء بالكسرة للتخفيف وانتصاب ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ ب ‏{‏يُخْرِجُونَ‏}‏ أو بإضمار اذكر‏.‏ ‏{‏إلى شَئ نُّكُرٍ‏}‏ فظيع تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله وهو هول يوم القيامة، وقرأ ابن كثير بالتخفيف، وقرئ «نكراً» بمعنى أنكر‏.‏

‏{‏خُشَّعاً أبصارهم يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث‏}‏ أي يخرجون من قبورهم خاشعاً ذليلاً أبصارهم من الهول، وإفراده وتذكيره لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث، وقرئ «خاشعة» على الأصل، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم ‏{‏خُشَّعاً‏}‏، وإنما حسن ذلك ولم يحسن مررت برجال قائمين غلمانهم لأنه ليس على صيغة تشبه الفعل، وقرئ «خشع أبصارهم» على الابتداء والخبر فتكون الجملة حالاً‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ‏}‏ في الكثرة والتموج والانتشار في الأمكنة‏.‏

‏{‏مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع‏}‏ مسرعين مادي أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه‏.‏ ‏{‏يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ‏}‏ صعب‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ قبل قومك‏.‏ ‏{‏فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا‏}‏ نوحاً عليه السلام وهو تفصيل بعد إجمال، وقيل معناه كذبوه تكذيباً على عقب تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبوه بعدما كذبوا الرسل‏.‏ ‏{‏وَقَالُواْ مَجْنُونٌ‏}‏ هو مجنون‏.‏ ‏{‏وازدجر‏}‏ وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية، وقيل إنه من جملة قيلهم أي هو مجنون وقد ازدجرته الجن وتخبطته‏.‏

‏{‏فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى‏}‏ بأني وقرئ بالكسر على إرادة القول‏.‏ ‏{‏مَغْلُوبٌ‏}‏ غَلبني قومي‏.‏ ‏{‏فانتصر‏}‏ فانتقم لي منهم وذلك بعد يأسه منهم‏.‏ فقد روي أن الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشياً عليه فيفيق ويقول‏:‏ «اللَّهُم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 23‏]‏

‏{‏فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ ‏(‏11‏)‏ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ‏(‏12‏)‏ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ‏(‏13‏)‏ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ ‏(‏14‏)‏ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏15‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏16‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏17‏)‏ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏18‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ‏(‏19‏)‏ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ‏(‏20‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏21‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏22‏)‏ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ‏}‏ منصب، وهو مبالغة وتمثيل لكثرة الأمطار وشدة انصابها، وقرأ ابن عامر ويعقوب ففتحنا بالتشديد لكثرة الأبواب‏.‏

‏{‏وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً‏}‏ وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة، وأصله وفجرنا عيون الأرض فغير للمبالغة‏.‏ ‏{‏فَالْتَقَى الماء‏}‏ ماء السماء وماء الأرض، وقرئ «الماءان» لاختلاف النوعين «الماوان» بقلب الهزة واواً‏.‏ ‏{‏على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ‏}‏ على حال قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت، أو على حال قدرت وسويت وهو أن قدر ما أنزل على قدر ما أخرج، أو على أمر قدره الله تعالى وهو هلاك قوم نوح بالطوفان‏.‏

‏{‏وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ ألواح‏}‏ ذات أخشاب عريضة‏.‏ ‏{‏وَدُسُرٍ‏}‏ ومسامير جمع دسار من الدسر، وهو الدفع الشديد وهي صفة للسفينة أقيمت مقامها من حيث أنها كالشرح لها تؤدي مؤداها‏.‏

‏{‏تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا‏}‏ بمرأى منا أي محفوظة بحفظنا‏.‏ ‏{‏جَزَاءً لّمَن كَانَ كُفِرَ‏}‏ أي فعلنا ذلك جزاء لنوح لأنه نعمة كفروها، فإن كل نبي نعمة من الله تعالى ورحمة على أمته، ويجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير، وقرئ «لِمَنْ كُفِرَ» أي للكافرين‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ تركناها‏}‏ أي السفينة أو الفعلة‏.‏ ‏{‏ءايَةً‏}‏ يعتبر بها إذ شاع خبرها واشتهر‏.‏ ‏{‏فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ معتبر، وقرئ «مذتكر» على الأصل، و«مذكر» بقلب التاء ذالاً والإِدغام فيها‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏ استفهام تعظيم ووعيد، والنذر يحتمل المصدر والجمع‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان‏}‏ سهلناه أو هيأناه من يسر ناقته للسفر إذا رحلها‏.‏ ‏{‏لِلذّكْرِ‏}‏ للادكار والاتعاظ بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ والعبر، أو للحفظ بالاختصار وعذوبة اللفظ‏.‏ ‏{‏فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ متعظ‏.‏

‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏ وإنذاري أتى لهم بالعذاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبهم‏.‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً‏}‏ بارداً أو شديد الصوت‏.‏ ‏{‏فِى يَوْمِ نَحْسٍ‏}‏ شؤم‏.‏ ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ أي استمر شؤمه، أو استمر عليهم حتى أهلكهم، أو على جميعهم كبيرهم وصغيرهم فلم يبق منهم أحداً، أو اشتد مرارته وكان يوم الاربعاء آخر الشهر‏.‏

‏{‏تَنزِعُ الناس‏}‏ تقلعهم، روي أنهم دخلوا في الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فنزعتهم الريح منها وصرعتهم موتى‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ‏}‏ أصول نخل منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض‏.‏ وقيل شبهوا بالاعجاز لأن الريح طيرت رؤوسهم وطرحت أجسادهم، وتذكير ‏{‏مُّنقَعِرٍ‏}‏ للحمل على اللفظ، والتأنيث في قوله ‏{‏أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ‏}‏ للمعنى‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏ كرره للتهويل‏.‏ وقيل الأول لما حاق بهم في الدنيا، والثاني لما يحيق بهم في الآخرة كما قال أيضاً في قصتهم ‏{‏لنذيقنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى‏}‏ ‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر‏}‏ بالإِنذارات والمواعظ، أو الرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 35‏]‏

‏{‏فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏24‏)‏ أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ ‏(‏25‏)‏ سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ‏(‏26‏)‏ إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ‏(‏27‏)‏ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ ‏(‏28‏)‏ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ‏(‏29‏)‏ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏30‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏32‏)‏ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ‏(‏34‏)‏ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا‏}‏ من جنسنا أو من حملنا لا فضل له علينا، وانتصابه بفعل يفسره وما بعده وقرئ بالرفع على الابتداء والأول أوجه للاستفهام‏.‏ ‏{‏واحدا‏}‏ منفرداً لاتبع له أو من آحادهم دون أشرافهم‏.‏ ‏{‏نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال وَسُعُرٍ‏}‏ جمع سعير كأنه عكسوا عليه فرتبوا على اتباعهم إياه ما رتبه على ترك اتباعهم له، وقيل السعر الجنون ومنه ناقة مسعورة‏.‏

‏{‏ءَأُلْقِي الذكر‏}‏ الكتاب أو الوحي‏.‏ ‏{‏عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا‏}‏ وفينا من هو أحق منه بذلك‏.‏ ‏{‏بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ‏}‏ حمله بطره على الترفع علينا بادعائه إياه‏.‏

‏{‏سَيَعْلَمُونَ غَداً‏}‏ عند نزول العذاب بهم أو يوم القيامة‏.‏ ‏{‏مَّنِ الكذاب الأشر‏}‏ الذي حمله أشره على الاستكبار عن الحق وطلب الباطل أصالح عليه السلام أم من كذبه‏؟‏ وقرأ ابن عامر وحمزة ورويس ستعلمون على الالتفات أو حكاية ما أجابهم به صالح، وقرئ «الأشر» كقولهم حذر في حذر و«الأشر» أي الأبلغ في الشرارة وهو أصل مرفوض كالأخير‏.‏

‏{‏إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة‏}‏ مخرجوها وباعثوها‏.‏ ‏{‏فِتْنَةً لَّهُمْ‏}‏ امتحاناً لهم‏.‏ ‏{‏فارتقبهم‏}‏ فانتظرهم وتبصر ما يصنعون‏.‏ ‏{‏واصطبر‏}‏ على أذاهم‏.‏

‏{‏وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ‏}‏ مقسوم لها يوم ولهم يوم، و‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ لتغليب العقلاء‏.‏ ‏{‏كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ‏}‏ يحضره صاحبه في نوبته أو يحضره عنه غيره‏.‏ ‏{‏فَنَادَوْاْ صاحبهم‏}‏ قدار بن سالف أحيمر ثمود ‏{‏فتعاطى فَعَقَرَ‏}‏ فاجترأ على تعاطي قتلها فقتلها أو فتعاطى السيف فقتلها والتعاطي تناول الشيء بتكلف‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة‏}‏ صيحة جبريل عليه السلام‏.‏ ‏{‏فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر‏}‏ كالشجر اليابس المتكسر الذي يتخذه من يعمل الحظيرة لأجلها أو كالحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء، وقرئ بفتح الظاء أي كهشيم الحظيرة أو الشجر المتخذ لها‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُذَكّرٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر‏}‏‏.‏ ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا‏}‏ ريحاً تحصبهم بالحجارة أي ترميهم‏.‏ ‏{‏إِلاَّ آلَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ‏}‏ في سحر وهو آخر الليل أو مسحرين‏.‏

‏{‏نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا‏}‏ إنعاماً منا وهو علة لنجينا‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ‏}‏ نعمتنا بالإِيمان والطاعة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 51‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ‏(‏36‏)‏ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏38‏)‏ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ ‏(‏39‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏40‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ‏(‏41‏)‏ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏42‏)‏ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ ‏(‏43‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ‏(‏44‏)‏ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ‏(‏45‏)‏ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ‏(‏46‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ‏}‏ لوط‏.‏ ‏{‏بَطْشَتَنَا‏}‏ أخذتنا بالعذاب‏.‏ ‏{‏فَتَمَارَوْاْ بالنذر‏}‏ فكذبوا بالنذر متشاكين‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ‏}‏ قصدوا الفجور بهم‏.‏ ‏{‏فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ‏}‏ فمسحناها وسويناها بسائر الوجه‏.‏ روي أنهم لما دخلوا داره عنوة صفقهم جبريل عليه السلام صفقة فأعماهم‏.‏ ‏{‏فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ‏}‏ فقلنا لهم ذوقوا على ألسنة الملائكة أو ظاهر الحال‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً‏}‏ وقرئ «بُكْرَةً» غير مصروفة على أن المراد بها أول نهار معين‏.‏ ‏{‏عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ يستقر بهم حتى يسلمهم إلى النار‏.‏

‏{‏فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ كرر ذلك في كل قصة إشعاراً بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب واستماع كل قصة مستدع للادكار والاتعاظ، واستئنافاً للتنبيه والاتعاظ لئلا يغلبهم السهو والغفلة، وهكذا تكرير قوله‏:‏ ‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ‏}‏ ونحوهما‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاء ءالَ فِرْعَوْنَ النذر‏}‏ اكتفى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك منهم‏.‏

‏{‏كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا‏}‏ يعني الآيات التسع‏.‏ ‏{‏فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ‏}‏ لا يغالب‏.‏ ‏{‏مُّقْتَدِرٍ‏}‏ لا يعجزه شيء‏.‏

‏{‏أكفاركم‏}‏ يا معشر العرب‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ‏}‏ الكفار المعدودين قوة وعدة أو مكانة وديناً عند الله تعالى‏.‏ ‏{‏أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر‏}‏ أم نزل لكم في الكتب السماوية أن من كفر منكم فهو في أمان من العذاب‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ‏}‏ جماعة أمرنا‏.‏ ‏{‏مُّنتَصِرٌ‏}‏ ممتنع لا نرام أو منتصر من الأعداء لا نغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضاً والتوحيد على لفظ الجميع‏.‏

‏{‏سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر‏}‏ أي الأدبار وإفراده لإِرادة الجنس، أو لأن كل واحد يولي دبره وقد وقع ذلك يوم بدر وهو من دلائل النبوة‏.‏ وعن عمر رضي الله تعالى عنه ‏"‏ أنه لما نزلت قال‏:‏ لم أعلم ما هو فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس الدرع ويقول‏:‏ سيهزم الجمع، فعلمته ‏"‏»‏.‏

‏{‏بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ‏}‏ موعد عذابهم الأصلي وما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه‏.‏ ‏{‏والساعة أدهى‏}‏ أشد، والداهية أمر فظيع لا يهتدي لدوائه‏.‏ ‏{‏وَأَمَرُّ‏}‏ مذاقاً من عذاب الدنيا‏.‏

‏{‏إِنَّ المجرمين فِى ضلال‏}‏ عن الحق في الدنيا‏.‏ ‏{‏وَسُعُرٍ‏}‏ ونيران في الآخرة‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ‏}‏ يجرون عليها‏.‏ ‏{‏ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ‏}‏ أي يقال لهم ذوقوا حر النار وألمها فإن مسها سبب التألم بها، وسقر علم لجهنم ولذلك لم يصرف من سقرته النار وصقرته إذا لوحته‏.‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَئ خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ أي إنا خلقنا كل شيء مقدراً مرتباً على مقتضى الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل وقوعه، وكل شيء منصوب بفعل يفسره ما بعده، وقرئ بالرفع على الابتداء وعلى هذا فالأولى أن يجعل خلقناه خبراً لا نعتاً ليطابق المشهورة في الدلالة على أن كل شيء مخلوق بقدر، ولعل اختيار النصب ها هنا مع الإِضمار لما فيه من النصوصية على المقصود‏.‏

‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة‏}‏ إلا فعلة واحدة وهو الإيجاد بلا معالجة ومعاناة، أو ‏{‏إِلا‏}‏ كلمة واحدة وهو قوله كن‏.‏ ‏{‏كَلَمْحٍ بالبصر‏}‏ في اليسر والسرعة، وقيل معناه معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم‏}‏ أشباهكم في الكفر ممن قبلكم‏.‏ ‏{‏فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ متعظ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 55‏]‏

‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُلُّ شَئ فَعَلُوهُ فِى الزبر‏}‏ مكتوب في كتب الحفظة‏.‏

‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ‏}‏ من الأعمال‏.‏ ‏{‏مُّسْتَطَرٌ‏}‏ مسطور في اللوح‏.‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَهَرٍ‏}‏ أنهار واكتفى باسم الجنس، أو سعة أو ضياء من النهار‏.‏ وقرئ ‏{‏نهر‏}‏ وبضم الهاء جمع نهر كأسد وأسد‏.‏

‏{‏فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏ في مكان مرضي، وقرئ «مقاعد صدق»‏.‏ ‏{‏عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ‏}‏ مقربين عند من تعالى أمره في الملك، والاقتدار بحيث أبهمه ذوو الأفهام‏.‏

عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ من قرأ سورة القمر في كل غب بعثه الله يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ‏"‏‏.‏

سورة الرحمن

مكية او مدنية او متبعضة وآيها ثمان وسبعون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 12‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‏(‏3‏)‏ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏الرحمن عَلَّمَ القرءان‏}‏ لما كانت السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيوية والآخروية صدرها ب ‏{‏الرحمن‏}‏، وقدم ما هو أصل النعم الدينية وأجلها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، فإنه أساس الدين ومنشأ الشرع وأعظم الوعي وأعز الكتب، إذ هو بإعجازه واشتماله على خلاصتها مصدق لنفسه ومصداق لها، ثم اتبعه قوله‏:‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان‏}‏ إيماء بأن خلق البشر وما يميز به عن سائر الحيوان من البيان، وهو التعبير عما في الضمير وإفهام الغير لما أدركه لتلقي الوحي وتعرف الحق وتعلم الشرع، وإخلاء الجمل الثلاث التي هي أخبار مترادفة ل ‏{‏الرحمن‏}‏ عن العاطف لمجيئها على نهج التعديد‏.‏

‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏ يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما، وتتسق بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات، ويعلم السنون والحساب‏.‏

‏{‏والنجم‏}‏ والنبات الذي ينجم أي يطلع من الأرض ولا ساق له‏.‏ ‏{‏والشجر‏}‏ الذي له ساق‏.‏ ‏{‏يَسْجُدَانِ‏}‏ ينقادان لله تعالى فيما يريد بهما طبعاً انقياد الساجد من المكلفين طوعاً، وكان حق النظم في الجملتين أن يقال‏:‏ وجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر‏.‏ أو ‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏، والنجم والشجر يسجدان له، ليطابقا ما قبلهما وما بعدهما في اتصالهما ب ‏{‏الرحمن‏}‏، لكنهما جردتا عما يدل على الاتصال إشعاراً بأن وضوحه يغنيه عن البيان، وإدخال العاطف بينهما لاشتراكهما في الدلالة على أن ما يحس به من تغيرات أحوال الأجرام العلوية والسفلية بتقديره وتدبيره‏.‏

‏{‏والسماء رَفَعَهَا‏}‏ خلقها مرفوعة محلاً ومرتبة، فإنها منشأ أقضيته ومتنزل أحكامه ومحل ملائكته، وقرئ بالرفع على الابتداء‏.‏ ‏{‏وَوَضَعَ الميزان‏}‏ العدل بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه السلام ‏"‏ بالعدل قامت السموات والأرض ‏"‏ أو ما يعرف به مقادير الأشياء من ميزان ومكيال ونحوهما، كأنه لما وصف السماء بالرفعة من حيث إنها مصدر القضايا والإقرار أراد وصف الأرض بما فيها مما يظهر به التفاوت ويعرف به المقدار ويسوى به الحقوق والمواجب‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان‏}‏ لئلا تطغوا فيه أي لا تعتدوا ولا تجاوزوا الانصاف، وقرئ «لا تطغوا» على إرادة القول‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان‏}‏ ولا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه، وتكريره مبالغة في التوصية به وزيادة حث على استعماله، وقرئ «وَلاَ تُخْسِرُواْ» بفتح التاء وضم السين وكسرها، و«تُخْسِرُواْ» بفتحها على أن الأصل ‏{‏وَلاَ تُخْسِرُواْ‏}‏ في ‏{‏الميزان‏}‏ فحذف الجار وأوصل الفعل‏.‏

‏{‏والأرض وَضَعَهَا‏}‏ خفضها مدحوة‏.‏ ‏{‏لِلأَنَامِ‏}‏ للخلق‏.‏ وقيل الأنام كل ذي روح‏.‏

‏{‏فِيهَا فاكهة‏}‏ ضروب مما يتفكه به‏.‏ ‏{‏والنخل ذَاتُ الاكمام‏}‏ أوعية التمر جمع كم، أو كل ما يكم أي يغطى من ليف وسعف وكفري فإنه ينتفع به كالمكموم كالجذع والجمار والتمر‏.‏

‏{‏والحب ذُو العصف‏}‏ كالحنطة والشعير وسائر ما يتغذى به، و‏{‏العصف‏}‏ ورق النبات اليابس كالتين‏.‏ ‏{‏والريحان‏}‏ يعني المشموم، أو الرزق من قولهم‏:‏ خرجت أطلب ريحان الله، وقرأ ابن عامر «والحب ذا العصف والريحان» أي وخلق الحب والريحان أو وأخص، ويجوز أن يراد وذا الريحان فحذف المضاف، وقرأ حمزة والكسائي «والريحان» بالخفض ما عدا ذلك بالرفع، وهو فيعلان من الروح فقلبت الواو ياء وأدغم ثم خفف، وقيل «روحان» فقلبت واوه ياء للتخفيف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 24‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏21‏)‏ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏23‏)‏ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ الخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله‏:‏ ‏{‏لِلأَنَامِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَيُّهَا الثقلان‏}‏‏.‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار‏}‏ الصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، والفخار الخزف وقد خلق الله آدم من تراب جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً فلا يخالف ذلك قوله خلقه من تراب ونحوه‏.‏

‏{‏وَخَلَقَ الجان‏}‏ الجن أو أبا الجن‏.‏ ‏{‏مِن مَّارِجٍ‏}‏ من صاف من الدخان‏.‏ ‏{‏مّن نَّارٍ‏}‏ بيان ل ‏{‏مَّارِجٍ‏}‏ فإنه في الأصل للمضطرب من مرج إذ اضطرب‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ مما أفاض عليكما في أطوار خلقتكما حتى صيركما أفضل المركبات وخلاصة الكائنات‏.‏

‏{‏رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين‏}‏ مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ مما في ذلك من الفوائد التي لا تحصى، كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل فيه إلى غير ذلك‏.‏

‏{‏مَرَجَ البحرين‏}‏ أرسلهما من مرجت الدابة إذا أرسلتها، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب‏.‏ ‏{‏يَلْتَقِيَانِ‏}‏ يتجاوران ويتماس سطوحهما، أو بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان يتشعبان منه‏.‏

‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ‏}‏ حاجز من قدرة الله تعالى أو من الأرض‏.‏ ‏{‏لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانِ‏}‏ كبار الدر وصغاره، وقيل المرجان الخرز الأحمر، وإن صح أن الدر يخرج من الملح فعلى الأول إنما قال منهما لأنه مخرج من مجتمع الملح والعذب، أو لأنهما لما اجتمعا صارا كالشيء الواحد فكأن المخرج من أحدهما كالمخرج منهما‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو ويعقوب ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏، وقرئ «نُخْرِجُ» و«يَخْرُجُ» بنصب ‏{‏الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلَهُ الجوار‏}‏ أي السفن جمع جارية، وقرئ بحذف الياء ورفع الراء كقوله‏:‏

لَهَا ثَنَايَا أَرْبَعٌ حِسَانٌ @ وَأَرْبَعٌ فَكُلُهَا ثَمَانٍ‏.‏ *** ‏{‏المُنْشَآتُ‏}‏ المرفوعات الشرع، أو المصنوعات وقرأ حمزة وأبو بكر بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج أو السير‏.‏ ‏{‏فِى البحر كالأعلام‏}‏ كالجبال جمع علم وهو الجبل الطويل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 36‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏25‏)‏ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ‏(‏26‏)‏ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ‏(‏27‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏28‏)‏ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ‏(‏29‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏30‏)‏ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ‏(‏31‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏32‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ‏(‏33‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏34‏)‏ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ ‏(‏35‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ من خلق مواد السفن والإِرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها غيره‏.‏

‏{‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا‏}‏ من على الأرض من الحيوانات أو المركبات و‏{‏مِنْ‏}‏ للتغليب، أو من الثقلين‏.‏ ‏{‏فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبّكَ‏}‏ ذاته ولو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله أي الوجه الذي يلي جهته‏.‏ ‏{‏ذُو الجلال والإكرام‏}‏ ذو الاستغناء المطلق والفضل العام‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ أي مما ذكرنا قبل من بقاء الرب وإبقاء ما لا يحصى مما هو على صدد الفناء رحمة وفضلاً، أو مما يترتب على فناء الكل من الإِعادة والحياة الدائمة والنعيم المقيم‏.‏

‏{‏يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات والأرض‏}‏ فَإِنَهم مفتقرون إليه في ذواتهم وصفاتهم وسائر ما يهمهم، ويعن لهم المراد بالسؤال ما يدل على الحاجة إلى تحصيل الشيء في ذواتهم وصفاتهم نطقاً كان أو غيره‏.‏ ‏{‏كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ‏}‏ كل وقت يحدث أشخاصاً ويحدد أحوالاً على ما سبق به قضاؤه، وفي الحديث ‏"‏ من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين ‏"‏ وهو رد لقول اليهود إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ أي مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما من مكمن العدم حيناً فحيناً‏.‏

‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان‏}‏ آي سنتجرد لحسابكم وجزائكم وذلك يوم القيامة، فإنه تعالى لا يفعل فيه غيره وقيل تهديد مستعار من قولك لمن تهدده سأفرغ لك، فإن المتجرد للشيء كان أقوى عليه وأجد فيه، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وقريء «سنفرغ إليكم» أي سنقصد إليكم‏.‏ و‏{‏الثقلان‏}‏ الإِنس والجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض أو لرزانة رأيهما وقدرهما، أو لأنهما مثقلان بالتكليف‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ يَا مَعْشَرَ الجنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ‏}‏ إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من الله فارين من قضائه‏.‏ ‏{‏فانفذوا‏}‏ فاخرجوا‏.‏ ‏{‏لاَ تَنفُذُونَ‏}‏ لا تقدرون على النفوذ‏.‏ ‏{‏إِلاَّ بسلطان‏}‏ إلا بقوة وقهر وأنى لكم ذلك، أو إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السموات والأرض ‏{‏فانفذوا‏}‏ لتعلموا لكن ‏{‏لاَ تَنفُذُونَ‏}‏ ولا تعلمون إلا ببينة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة، أو مما نصب من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السموات العلا‏.‏

‏{‏يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ‏}‏ لهب‏.‏ ‏{‏مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ‏}‏ ودخان قال‏:‏

تُضِيءُ كَضَوْءِ السِرَاجِ السَّلِي *** طِ لَمْ يَجْعَلِ الله فِيهِ نُحَاساً

أو صفر مذاب يصب على رؤوسهم، وقرأ ابن كثير«شوَاظٌ» بالكسر وهو لغة «وَنُحَاس» بالجر عطفاً على ‏{‏نَّارٍ‏}‏، ووافقه فيه أبو عمرو ويعقوب في رواية، وقرئ «ونحس» وهو جمع كلحف‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَنتَصِرَانِ‏}‏ فلا تمتنعان‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار في عداد الآلاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 54‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ‏(‏37‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏38‏)‏ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ ‏(‏39‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏40‏)‏ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ ‏(‏41‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏42‏)‏ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏43‏)‏ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ ‏(‏44‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏45‏)‏ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ‏(‏46‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏47‏)‏ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ‏(‏48‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏49‏)‏ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ‏(‏50‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏51‏)‏ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ‏(‏52‏)‏ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏53‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا انشقت السماء فَكَانَتْ وَرْدَةً‏}‏ أي حمراء كوردة وقرئت بالرفع على كان التامة فيكون من باب التجريد كقوله‏:‏

وَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ *** تَحْوِي الغَنَائِمِ أَوْ يَمُوتَ كَرِيمُ

‏{‏كالدهان‏}‏ وهو اسم لما يدهن به كالحزام، أو جمع دهن وقيل هو الأديم الأحمر‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ أي مما يكون بعد ذلك‏.‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ‏}‏ أي فيوم تنشق السماء‏.‏ ‏{‏لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ‏}‏ لأنهم يعرفون بسيماهم وذلك حين ما يخرجون من قبورهم ويحشرون إلى الموقف ذوداً ذوداً على اختلاف مراتبهم، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ‏}‏ ونحوه فحين يحاسبون في المجمع، والهاء للإِنس باعتبار اللفظ فإنه وإن تأخر لفظاً تقدم رتبة‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ أي مما أنعم الله على عباده المؤمنين في هذا اليوم‏.‏

‏{‏يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم‏}‏ وهو ما يعلوهم من الكآبة والحزن‏.‏ ‏{‏فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام‏}‏ مجموعاً بينهما، وقيل يؤخذون ‏{‏بالنواصى‏}‏ تارة وب ‏{‏الأقدام‏}‏ أخرى‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بَيْنَهَا‏}‏ بين النار يحرقون بها‏.‏ ‏{‏وَبَيْنَ حَمِيمٍ‏}‏ ماء حار‏.‏ ‏{‏آنٍ‏}‏ بلغ النهاية في الحرارة يصب عليهم، أو يسقون منه، وقيل إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ‏}‏ موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب، أو قيامه على أحواله من قام عليه إذا راقبه، أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين فأضيف إلى الرب تفخيماً وتهويلاً، أو ربه و‏{‏مَّقَامِ‏}‏ مفخم للمبالغة كقوله‏:‏

ذَعَرَّتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ *** مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعِينِ

‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ جنة للخائف الإِنسي والأخرى للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين والمعنى لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته وأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو روحانية وجسمانية وكذا ما جاء مثنى بعد‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ ذَوَاتَا أَفْنَانٍ‏}‏ أنواع من الأشجار والثمار جمع فِنْ، أو أغصان جمع فنن وهي الغصنة التي تتشعب من فرع الشجرة، وتخصيصها بالذكر لأنها التي تورق وتثمر وتمد الظل‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ‏}‏ حيث شاؤوا في الأعالي والأسافل‏.‏ قيل إحداهما التسنيم والأخرى السلسبيل‏.‏ ‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏‏.‏

‏{‏فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ‏}‏ صنفان غريب ومعروف، أو رطب ويابس‏.‏

‏{‏فَبِأَىّ ءَالاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ‏}‏ من ديباج ثخين وإذا كانت البطائن كذلك فما ظنك بالظهائر، و‏{‏مُتَّكِئِينَ‏}‏ مدح للخائفين أو حال منهم، لأن من خاف في معنى الجمع‏.‏ ‏{‏وَجَنَى الجنتين دَانٍ‏}‏ قريب يناله القاعد والمضطجع، ‏{‏وَجَنَى‏}‏ اسم بمعنى مجني وقرئ بكسر الجيم‏.‏